Saturday, July 14, 2018

رحيل الناقد السينمائي أحمد يوسف






أن تختار النقد السينمائي وسيلة ورسالة في حياتك أمر صعب، وأن يكون ذلك في عصر تشهد فيه بلدك وثقافتك كل أشكال التراجع والتقهقر عن العصر الحديث الذي تعتبر السينما نفسها لؤلؤة التاج فيه يصبح الأمر أشبه بمهمة مستحيلة؛ لكن أن تعزّز اختيارك بأن تكون راهباً يقدّس مهنة النقد وتحليل الصورة والدراما، ويبتعد عن كل أشكال المجاملات والانحيازات، مضحياً بما تتيحه من أدوار قيادية في مهرجانات، أو حتى منصات إعلامية للتعبير، لا يعني ذلك إلا أنك أحمد يوسف.


منذ أن تعرّفت على كتابات الناقد السينمائي الدكتور أحمد يوسف في سنوات التسعينات في مجلة "اليسار" وبعض مطبوعات أخرى، انبنت لدي ثقة كبيرة في قدرة هذا المُعلّم على الشرح، والتفسير، والتحليل الهادئ العميق بعبارة بسيطة رائقة؛ ولعله من القلائل الذين كانوا يكتبون العربية بهذه البساطة والقدرة على التعبير عن أي فكرة مهما كانت صعوبتها دون حذلقة، ودون تقصير في شرح المعنى، ودون أن تصبح الجملة والفكرة صعبة على التلقي؛ بل دون أن تصبح الجملة طويلة.

لم ينشغل أحمد يوسف بدور غير بناء ثقافة وخبرة تلقي الفيلم والدراما المصوّرة لدى القارئ وتوضيح القيم التي تتصارع على الشاشة ووضعها تحت المجهر. وكان همّه تعميق القناعة التي ظل يؤمن بها وهي: أن في مصر  إمكانية لبناء مجتمع حديث، وإنسان مبدع، ،وأن الطاقات والمواهب موجودة تحتاج من يكشف عنها ويضع إمكاناتها في منظومة عصرية التفكير، إيجابية المبادئ والأهداف وتراعي جميع الطبقات

على الرغم من التقارب الكبير الذي شعرت به تجاه أحمد يوسف عبر أحاديثنا الهاتفية خلال سنوات التسعينات لم نتقابل إلا مرتين، فقد كان قليل الظهور في الفعاليات دون أن يخل بحرصه على دور المتابع الجيد، ولم يشارك بنفسه اجتماعياً في أنشطة وفاعليات تغلب عليها أو توجد بها شبهة المجاملة.

 ًفي المرة الأولى التي التقيته فيها زرته في مكتبه بوزارة الصحة قرب ميدان الأوبرا وخرجنا معاً في جولة بسيارته، والثانية كان لقاء غير مخطط له في إحدى الفاعليات السينمائية بالمجلس الأعلى للثقافة. لكن حديثنا كان يمتد لساعات؛ فقد كانت آراؤه بوصلة ليس فقط لما هو صائب سياسياً، وإنما للتفكير الشريف بشكل عام.

رأيه وتحليله لظواهر النجومية في مصر، وخاصة ما وصفه بخيانة عادل إمام للنجومية التي منحها إياه جمهوره، من أفضل ما يمكن قراءته عن صورة ما حدث في مصر من تحولات في القيم منذ سبعينات القرن العشرين.

تأملاته في محتوى الأعمال الجميلة والردئية في السينما المصرية وأيضاً العالمية، ثم على شاشة التلفزيون خلال العقدين الأخيرين، نمط من الكتابة خاص ومنفرد بنفسه، ابتعد به أحمد يوسف عن كل المؤثرات، وليس فقط المجاملات أو الانحيازات. بصيغة أخرى كان انحيازه فقط للقارئ الذي يرغب في فهم كيف تتفاعل القيم والقوى الاجتماعية والأفكار والعوامل الاقتصادية مع محتوى وشكل الفيلم، وكيف ولماذا يختار الجهمور فنانا ويصنع منه نجماً.


لا أعتقد أنني سأنجح في كتابة جملة رائقة وبسيطة من القلب في وداع أحمد يوسف تنافس جملته وبساطتها الرائعة. فقط أتذكر الإحساس الذي كان طاغياً عليه في السنوات الأخيرة بأن أحداً لن يتذكّره بعد رحيله، وهو ما جعلني أنظر مرة أخرى إلى مدونته الرائعة  التي سمّاها أحمد يوسف فيلم، بعد أن علمت بخبر وفاته صباح اليوم، وكان قد أخبرني منذ سنوات أنه يحاول تجميع بعض المقالات القديمة أو تضمين أفكار منها في عروض الأفلام التي ينشرها على المدونة. 

نظرة شاملة لمدونة أحمد يوسف تكشف حجم فكر هذا الكاتب الكبير، والمفكر الهادئ صاحب القلم الشريف. هذه المدونة مرجع لكل عاشق للسينما، ومحب لمصر ولإبداعها الدرامي. أما مقالاته وترجماته التي نشرها في مطبوعات ومواقع إلكترونية  أخرى فهي ديوان متميز وفريد للنقد السينمائي المكتوب بالعربية يستحق التجميع والاحتفاء.

اليوم، وأنا أتأكد من خبر الرحيل، علمت من السينمائية والناقدة الكبيرة صفاء الليثي أنها كانت تنوي ترشيح الدكتور أحمد يوسف هذا العام للتكريم على المستوى القومي، وهي خطوة لن يعيقها الرحيل الهادئ لحكيم السينما، لكني أقول لأحمد يوسف إن كتاباتك عالقة في ذاكرة محبيك، ودعمك لتلاميذك علامة في نفوسهم لن تنمحي، وهو ما لمسته لدى كثيرين ممن عرفوك أو حتى ممن عرفوا كتاباتك دون صلة مباشرة معك، فقد كانت لدى عباراتك قدرة رائعة على الوصول إلى القلب والضمير.

لينك مدونة أحمد يوسف:

Thursday, June 21, 2018

زيارة إلى ما تبقى من أساطير الأصليين في كندا


لوحة "هجرة" لنورفال موريسمو أو (بيكاسو الشمال) - 1973

تقديم:
اليوم (21 يونيو) اليوم الوطني للسكان الأصليين في كندا. وكنت قد كتبت هذا الموضوع لمجلة دبي الثقافية قبل أن تُغلَق، ولا أعلم إن كان نُشر أم لا.
وتفيد المراجع أن عدد المحميات أو التجمعات التي كان يعيش فيها سكان كندا الأصليون تجاوز الـ 3100 في السابق، وأنها امتدت على مساحات تبلغ أضعاف ما تشغله الـ 1763 محمية التي تبقت ويعيش بها بعض منهم حتى الآن محاولين الحفاظ على تراث وثقافة ونمط حياة يستند إلى قيم أكثر إنسانية من تلك التي تحرك الرأسمالية الغربية، وأكثر توافقاً مع دورات الطبيعة.

يبلغ عدد السكان الأصليين في كندا أكثر من مليون وستمائة ألف شخص (1673785) منهم 977230 من الهنود الحمر، و587545 من الميتز، وهم أوروبيون جاءوا مشياً عن طريق القطب الشمالي قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أي قبل اكتشاف كريستوفر كولومبس الطريق البحري إلى الأمريكيتين، وقد استوطنوا واختلطت أعراقهم بالهنود الحمر منذ قرون قبل هجرات الأوروبيين في عصر ما بعد كولومبس. هذا الموضوع عن بعض الأعمال الفنية والمشغولات اليدوية في متحف أونتاريو الملكي للهنود الحمر.
من بين الـ 977230 اختار 673660 تسجيل أوراقهم بهوية "سكان أصليين"، ويعيش نصفهم تقريباً في تجمعاتهم الخاصة، وليس في المدن الكندية ذات الطابع الغربي.
(ملحوظة: بعض الأرقام قد تتطلّب التحديث مع مرور الوقت). 




في مدخل الجاليري الخاص بسكان كندا الأصليين داخل متحف أونتاريو الملكي تتصدر لوحة هجرة للفنان موريسمو نوفال، مصحوبة بعبارة: نحن لا نعرف كيف وصل الأمريكيون الأصليون إلى هذه الـ (كندا). ربما جاءوا تدريجياً كمجموعات عبر مضيق بيرنغ الذي يصل ألاسكا بشمال شرق آسيا. هناك الكثير من الأساطير حول هجرتهم كمجموعات من العائلات معاً، أو فرادى؛ هذه اللوحة تحاول استعادة تلك الأسطورة.

الاسم الأصلي للفنان نورفال موريسيو في لغته الأصلية يعني "طائر الرعد النحاسي"، ويعتبر طائر الرعد من أشهر المخلوقات الأسطورية في ثقافة الأمركيين الأصليين، وهو طائر أشبه بالنسر يمكنه إطلاق الرعد، ولا يخشى سوى عدواً واحداً هو وحش الماء. لذلك ليس غريباً أن يكرّس موريسيو فنه للأساطير واسمه كذلك، لكن من الهام الإشارة إلى أن مكانة موريسيو الفنية التي جعلت لوحته تتصدر أهم الجاليريهات عن الهنود الحمر في شمال أمريكا منحته لقباً آخر منذ سبعينات القرن الماضي هو: بيكاسو الشمال.

الهجرة محور أساسي في تشكّل ثقافة الهنود الحمر وفي توثيق تاريخهم، وصولاً إلى مرحلة اضمحلال وأفول هذه الثقافة بفعل مجيء هجرات واسعة من أوروبا، وهو ما تحاول مقتنيات الجاليري أن تعكسه.

لكن هناك الكثير من السياسة في خلفية وصول هذه المقتنيات الأصلية من هؤلاء السكان الأصليين إلى المتحف قد لا تُظْهِرُه المقتنيات نفسها بوضوح، كما يقول أرني براونستون المشرف على الجاليري والمتخصص في تراث جماعات الهنود الحمر الذين عاشوا في البراري.

من ناحية أخرى هناك الكثير من السياسة أيضاً في محاولة الحفاظ على بقايا هذه الثقافة الآن من خلال الفن.


من أعمال بول كين 1849


في الجاليري أيضاً مجموعة متكاملة من صور الفنان بول كين وهو من أوائل الفنانين ذوي الأصول الأوروبية الذين اهتموا برسم عالم السكان الأصليين. وتجمع لوحاته ما بين فن البورتريه والمناظر الطبيعية التي توثق نمط حياة الهنود الحمر قبل أن يندثر هذا النمط في كندا خلال النصف الثاني من القرن الـ 19. كما تتضمن رسوماته الصيد البحري والبري، وتصوير الشلالات المتنوعة التي تنتشر بفضل العدد الكبير من البحيرات، وأشهرها شلالات نياجرا، وهي أعمال تستفيد من خبرة الرسم الأوروبي لكنها تصوّر مناظر شديدة الأصالة ما يجعلها وثيقة فنية بامتياز.


.قتْل ثقافة حية
تاريخياً بدأت إزاحة الرجل الأبيض للهنود الحمر من أماكنهم الأصلية في كندا منذ القرن الـ19، عندما توسع اقتصاد الأوروبيين، وتم تأسيس دولة كندا (1870) وحصولها على الاستقلال من الإمبراطورية البريطانية، فحدثت إزاحة لهم - كما يقول براونستون- “من الشرق إلى الوسط والغرب ضيّقت مصادر الرزق عليهم، وبحسب المعاهدة المبرمة مع زعماء قبائل الأصليين عام 1873 أصبح الأوروبيون ملزمين بتزويدهم بالغذاء والطعام لأنه تمت إزاحتهم عن أماكن الصيد التي يعرفونها".


من ناحية أخرى كانت هناك أعداد كبيرة من الجاموس تعيَّش الأصليون على صيده، لكن قام الأوروبيون بصيد أعداد هائلة منه "نتيجة الاعتماد على الجلود في صناعات عديدة خلال القرن التاسع عشر (قبل البلاستيك). فأدى الصيد المكثف إلى تناقص الجاموس ونقص المصادر الغذائية للأصليين، ووجد الأوروبيون أن أفضل الطرق هي دمج الهنود الحمر في الاقتصاد الغربي الحديث ليعتمدوا على أنفسهم في الرزق".
لكن لأغراض سياسية لم يعلّم الأوروبيون الهنود الحُمر الزراعة، والسبب غالباً الرغبة في عدم تمكينهم من حرفة تربطهم بالأرض. ومن جانبهم -كما يوضح براونستون- “الأصليون احتفاليون، يحبون الموسيقى والرقص، وقد فكّر الأوروبيون أنه إذا تم إبعاد الهنود الحُمر عن هذه الاهتمامات الفنية الخاصة بهم سيمكنهم الاهتمام بالإقتصاد الجديد من السيطرة على المنطقة وعاداتها، ويكون دمجهم أسهل في الثقافة الغربية".
وقد اعتمدت عملية تحويل الاهتمام الثقافي للهنود الحُمر على التبشير لسهولة تمويله من الكنائس في أوروبا، وتم التركيز على التبشير بين أطفال الهنود الحُمر بكثافة، وكانت الحكومة الكندية سعيدة للغاية بهذه العملية لأنها غير مضطرة للإنفاق على تعليم هؤلاء الأطفال كما تلزمهم بذلك المعاهدة التي انزاح الهنود الحمر بموجبها طوعاً من شرق كندا باتجاه البراري في وسط القارة".

في هذه الأجواء جاءت مقتنيات المتحف عن الهنود الحمر؛ مثلاً بعض المعاطف الثقيلة التي تبادلها زعماء الهنود الحمر مع تجار أوروبيين تعود إلى طقس احتفالي تواصل فيه الطرفان بنجاح، وسط تعذّر التواصل الثقافي بين أبناء عالمين مختلفين.


الباحث أرني براونستون



 كان الأصليون يقدّرون تبادل الأشياء الشخصية بشكل احتفالي كتعبير عن المودة، بينما يريد التجار الأوروبيون التواصل التجاري معهم وسط تعثر الاتصال لغوياً من ناحية، ونتيجة عدم تفهم العادات من ناحية أخرى. فاكتشف الأوروبيون أن زعماء قبائل الهنود الحمر يحبون تبادل المعاطف تعبيراً عن الود والسلام، ومن ناحيتهم اعتبر البيض ذلك نوعاً من المبادلة التجارية. هكذا وصلت إلى المتحف مجموعة من المعاطف ومعها صور للزعماء يرتدون المعطف الأوروبي دليلاً على الصداقة!
الجانب الطقسي الاحتفالي كان عسيراً على فهم التجار الأوروبيين في بداية التواصل بين الطرفين، فالتجار اهتموا بالأعمال، بينما اهتم الأصليون بالطقوس ومنها الرقص والموسيقى التي يتم من خلالها التواصل الاجتماعي، وكانت إحدى أهم الطقوس نجاحاً بين الطرفين عندما يتبادل زعيم القبيلة معطفه مع تاجر أوروبي، لذلك توجد مجموعة غير قليلة من معاطف الهنود الحمر بين مقتنيات المتحف -كما يوضح براونستون- وكذلك توجد صور التقطها الأوروبيون لزعماء قبائل الهنود الحمر يرتدون معاطف أوروبية وهم يبتسمون تعبيراً عن الرضا لنجاح الطقس الاحتفالي من وجهة نظرهم.
أما معاطف السكان الأصليين فقد وصل بعضها إلى المتحف لأن التجار الأوروبيون أعادوا بيعها للأثرياء الذين حافظوا على الكثير منها.


حزام من الصوف المطرّز يصوّر التقاء طائرين - 1890



خنق الطقوس.
وعندما انتقل الأصليون إلى مناطق جديدة أقاموا في "محميات" عينت الكومة سلطة عسكرية لإدارتها. وكانت السلطات تمنع الهنود الحُمر من ممارسة عاداتهم وطقوسهم الاحتفالية داخل المحميات لتغلق الباب أمام امتداد الإرث الثقافي لهذه الجماعة البشرية؛ فلم تستطع فنون هؤلاء السكان الوصول إلينا إلا نتيجة أن بعض القادة العسكريين كانوا أكثر تفهماً للحاجات الإنسانية وأكثر تسامحاً في تطبيق القوانين التعسفية، فسمحوا بشكل شخصي لبعض الهنود الحمر بعمل آلاتهم الموسيقية، والأدوات التي يحتاجونها لطقوسهم الأخرى.
وهنا يوضح براونستون أن ما نراه من أعمال فنية لم يكن سوى أدوات طقسية يمارس من خلالها الهنود الحُمر صلواتهم وطقوسهم الاحتفالية، بما فيها تدخين التبغ، حيث كان الأصليون يعتقدون أن الدخان الذي ينفثونه نوعاً من الصلاة أو الرسالة التي يرسلونها إلى الخالق!


النجمة المغربية. أما تفاعل هؤلاء القبائل مع بعضهم البعض فقد أثمر مجموعة من سروج الخيول ذات الأشكال الجميلة. كان الأسبان قد عرّفوا السكان الأصليين على الخيول، وتحديداً قبائل الأزتك، الذين نشروا الاهتمام بالخيول بين قبائل الهنود الحمر الأخرى في مناطق شمال القارة، فتجد سرجاً عليه شكل تجريدي مستلهم من شكل النجمة المغربية التي اجتلبها الأسبان إلى أمريكا، ونشرها الأزتك بين قبائل الأصليين الأخرى.
ونتيجة تساهل بعض المسؤولين الأوروبيين في تنفيذ أوامر منع ثقافة الهنود الحُمر خلال النصف الثاني من القرن الـ 19 كانت النساء تصنعن الملابس التقليدية خلال الشتاء ليرتديها الجميع في الربيع، وخلال احتفالات العيد الوطني لكندا (1 يوليو) من كل عام، حيث يُسْمَح للجميع بارتداء الملابس التقليدية، ويُسْمَح للأطفال بلعب ألعابهم التقليدية إلى جانب لعب الكرة مع الأطفال الأوروبيين"
تصاميم الأحذية والملابس ذات أشكال هندسية – كما يشير براونستون- ويعتقد الأنثربولوجيون أن لهذه الأشكال معانٍ عميقةٍ في ثقافة الأصليين، مثلاً المثلث هو تجريد للخيمة. كما تستلهم بعض الأشكال أشياء يرونها في الطبيعة كأنياب الحيوانات وشكل الضفدع، حيث تنتشر الضفادع بكثرة حول البحيرات المتناثرة في أنحاء كندا.”

وقد لاحظ أنثربولوجيون أن الكثير من المعاني لا يعبر عنها الأصليون بألفاظ منطوقة، بل باللغة البصرية فقط، مثل الشكل التجريدي لالتقاء طائرين، والذي تبينه صورة حزام من الصوف.

وتمتلئ أساطير الهنود الحمر وبالطبع رسوماتهم بالحيوانات، فقد كانوا يعتبرون أن العلاقة مع الحيوان صلة مع الخالق، ولذلك يحمل كل حيوان أسطوري رمزاً ومعنى.

داخل الجاليري أيضاً مجموعة من أدوات الزينة والتجميل والتي كان يهتم بها رجال الهنود الحُمر أكثر من النساء، بحسب براونستون. فقد كان الرجال يرتدون الأقراط أكثر من النساء، ويهتمون برسم الحاجبين، بينما اقتصر تجميل المرأة على تزيين الشعر وعمل الضفائر

Monday, June 4, 2018

من تاريخ الترحال: القطار لا يعرف قيود النهر

قطار بخاري عتيق


قبل المحرك البخاري وخطوط السكك الحديدية استخدم الإنسان خطوط السكك الخشبية، والتي لا تختلف إلا قليلاً عن مثيلتها الحديدية سوى في استخدام الخشب، وأن العجلات لم تكن تجري فوق القضبان وإنما جوارها من الخارج، وكانت الأحصنة هي التي تقوم بقطر العربات، ومن هنا استخدمت قوة الحصان فيما بعد كوحدة قياس لقوة المحركات الآلية التي حلت محل الحيوانات. ولم تكن القضبان متصلة بالرابط الذي يُعرف الآن باسم الفلنكات، عندما بدأ عام 1800 التفكير الجاد في ضرورة وجود محرِّك غير الأحصنة.

 كانت المصانع تنتشر باضطراد في أوروبا وأمريكا في ذلك الوقت وتريد الحصول على  مواد خام طازجة، ولم تكن سرعة الأحصنة كافية، أما مناجم الفحم فقد كانت الأكثر استخداماً للقاطرات في نقل الفحم، ومن هناك ولد اختراع المحرك الآلي الذي يتحرك بقوة البخار، لكن الغريب أن مخاوف بعض الناس من الأسلوب الجديد في الترحال الذي قد يجعل الإنسان يتحرك بسرعة كبيرة هي 20 كيلومتراً في الساعة أدى لنشر إشاعات خرافية عن الاختراع الجديد!

كان التحول كبيراً، وقد شهدته بريطانيا أولاً عندما تمكن البريطاني جورج ستيفنسون عام 1814 من بناء أول محرك بخاري، وبعد نجاحه في قطر الفحم، حيث كان يعمل مهندساً في أحد المناجم، نجح ستيفنسون في تصميم قاطرة بخارية لسفر الأشخاص وكان ذلك عام 1820 عندما نقل 60 مسافراً من دارلنجتون إلى ستوكتون في ثلاث ساعات تضمنت التوقف في محطات، بعدها بشهر واحد انتظم خط ثابت لخدمة المسافرين بين هاتين المدينتين.

   قطار بخاري

منذ ذلك الوقت أخذت علاقة الإنسان بالقطار مساراً آخر، مادياً وشعورياً، ففي محطات القطار تجمعت أحاسيس الوداع والفراق، وتكثفت مشاعر اللقاء، بعد أن اقتربت المسافات. كذلك تزايدت المخاوف من القادمين الغرباء، وانفتحت القرى والمدن البعيدة أمام أخبار الصحف؛ لقد أخذ مفهوم الانتماء إلى المكان معاني مختلفة لم تعد قاصرة على مساحة القرية أو المدينة أو الدائرة المغلقة، بل مفتوحة أمام العالم للمجيء أو الرحيل.  

لكن علاقة الإنسان باستخدام الخطوط الخشبية قديمة جداً، لذلك لم تُقابَل التغييرات برفض كبير من الناس بقدر ما عبّرت صُحف تلك الفترة عن هواجس القلق من سرعة عبور القطار داخل المدينة، وضرورة وجود نوع من الإشارة لمرور القاطرة. وكان التحول إلى الخطوط الحديدية قد سبق المحرّك، حيث حلّت عام 1740 مكان الخطوط الخشبية لأنها تستطيع تحمل الأثقال بعدما زاد الاعتماد على النقل بهذه الوسيلة، وفي عام 1780 أصبح للقضبان حواف تشبه المستخدمة حالياً، والتي تمكِّن العجلات من الدوران بانتظام فوق القضبان وليس إلى جوارها، وفي ذلك الوقت اختُصرت المسافة العريضة بين القضيبين التي كانت موجودة وقت السكك الخشبية، ليصبح عرض المسافة بينهما 3 إلى 4 أقدام، مما سهل الربط بالفلنكات، وهو ما أدى لزيادة الأحمال والسرعة في آن واحد.

وبالنظر إلى أن الإنسان قد اخترع العجلة قديماً، تُعتبر خطوط السكك الخشبية أو الحديدية قد تأخرت نسبياً، خاصة أن مسارات طرق النقل التجاري وطرق السفر بين المدن كانت مستقرّة ومعروفة منذ مئات السنين، لكن اعتماد الإنسان على المواصلات النهرية في المجتمعات القديمة وفّر وسيلة جيدة وعملية لنقل البضائع، فقط عندما بدأ استخراج الفحم بكميات ضخمة من مناجمه، والتوسع في قارة أمريكا الشمالية انتبه الإنسان إلى أن مسارات الأنهار تسمح له باستخدامها في النقل بين الشمال والجنوب فقط، ولا يوجد أنهار تتحرك بين الشرق والغرب والعكس، هنا بدأ الاعتماد على خطوط القضبان كوسيلة للتوسع في القارة المكتشفة حديثاً، وكذلك مثلت القاطرة وسيلة ممتازة لرفع الأحمال الثقيلة للمعادن المستخرجة من المناجم .

بدأ سباق السرعة منذ أول أستخدام للقطارات في نقل المسافرين، فلم يتم اختيار قاطرة ستيفنسون التي نقلت المسافرين لأول مرة بين دارلنجتون وستوكتون إلا بعد أن تنافست مع أربع قاطرات أخريات، وربحت بسبب السرعة والراحة الداخلية للمسافرين.

ويذكر الروائي تشارلز ديكنز وصفاً لرحلات القطار البخاري في أمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر، حيث كان الركاب يستخدمون البخار لتسخين القهوة والشاي وحليب الأطفال، وكانوا يجدون تعاوناً من مساعد السائق المسئول عن الجانب الميكانيكي في المحرك البخاري.

لكن رغم أن السبق في القاطرة البخارية للبريطانيين، وخلفهم بخطوة يأتي الأمريكان ودورهم في تطوير شبكات السكك الحديدية، ونشر القطار كوسيلة قليلة التكلفة ومريحة للمسافرين من حيث التصميم الداخلي للعربات ومقاعدها، إلا أن تسمية Train ذات أصل فرنسي، كما أن الفرنسيين مغرمون بالسباق من أجل وصول قطاراتهم لأقصى سرعة يبلغها قطار في العالم، وتأتي معهم في ذلك ألمانيا والصين واليابان، وكانت اليابان أول من بادر بتوفير خدمة القطارات السريعة التي تجري بسرعة أكبر من 200 كم في الساعة تحت مسمى "القطار- الرصاصة" عام 1964.

ويحمل القطار الفرنسي رقم أسرع قطار يجري على قضبان في العالم حالياً، مسجلا سرعة 574.8 كم في الساعة، وهي سرعة تفوق الموديلات غير الحديثة من طائرة البوينج 727، بينما يحمل قطار ياباني رقم أسرع قطار مغناطيسي (يطير فوق القضبان) بسرعة 581 كم في الساعة، والطريف أن هناك مقالاً قديماً يعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر في صحيفة إنجليزية يتحدث عن المخاوف التي يحملها اختراع القاطرة البخارية، ويتكلم كاتبه عن الإنسان سوف يطير على القضبان من فرط السرعة، لكن كاتبه كان يقصد وقتها السفر بسرعة تزيد على 20 كم في الساعة، والتي كانت وقتها مهولة مقارنة بسرعة الأحصنة.

 خلال نقل القطار الفرنسي الأسرع في العالم حالياً

الفنون والقطار. هناك عدد كبير من الروايات والأفلام التي تدور أحداثها في القطارات، نوعيتها لا تقتصر فقط على المغامرات أو الجريمة بل هناك أيضا الرومانسية إلى جانب الموضوعات العامة، ويعتبر الوداع في محطات القطار من المشاهد الكلاسيكية السينمائية، خاصة أن نقل الجنود في أزمنة الحروب الحديثة كالحربين العالميتين اعتمد بشكل رئيسي على القطارات، التي كانت محطاتها فاصلاً ينتقل بعده الشخص إلى حياة الجندية مودعاً أحباءه.

وقد أسهمت السينما المصرية، والفن المصري بشكل عام، في تقديم صور متنوعة عن القطار بداية من أغنية "يا وابور" ومشاهد الموسيقار محمد عبدالوهاب في القطار، إلى مجموعة كبيرة من الأفلام ساهم فيها مخرجون متنوعوا الأذواق من أفلام "سيدة القطار" ليوسف شاهين وعمله الشهير "باب الحديد" الذي قام فيه بدور البطولة ودارت الأحداث في محطة القطارات الرئيسية بالقاهرة والتي كانت تسمى "باب الحديد" واسمها الرسمي محطة مصر، وتقع في ميدان رمسيس.

هناك روايات مصرية وأعمال سينمائية قدمت نماذج بشرية من راكبي القطارات، وأحوال المسافرين، وقد واكبت الدراما المصرية تمدد القطارات داخل المدينة من خلال محطات مترو الأنفاق مثل جوهرة محمد خان "ضربة شمس".

ولعل فيلم "هستيريا" للفنان أحمد زكي نموذجاً عن حالة الاغتراب التي يعيشها الناس في المدن فيصبح التواصل عن طريق عزف الموسيقى هو الأداة للتفاعل مع الحشود التي يجمعها الزحام لكنها تعيش حالات من الغربة والعزلة والانشغال بالذات.

لم تكن السكك الحديدية غائبة عن المواصلات الداخلية داخل المدينة نفسها، فهناك "الترام" الذي تشتهر به مدن عديدة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، ومنها مدينة الإسكندرية وإسطنبول التي تحتفظ بخط وحيد للترام العتيق يمر بشارع "تكسيم" الشهير في وسط المدينة، وهناك ترام في مدن غربية شهيرة منها تورنتو بكندا وسان فرانسيسكو بالولايات المتحدة. وقد قدمت السينما والفنون المختلفة أعمالاً تبين الشخصيات الاجتماعية من طبقات مختلفة التي تتفاعل داخل عربات القطارات سواء في رحلاتها بين المدن أو داخلها؛ فهذا السلوب الذي بدأ حلماً أصبح من تفاصيل الحياة اليومية، وينتج منه كثير من المفارقات الدرامية.

 تراجيديا القطار. الدراما الإنسانية التي ارتبطت بالقطارات تصل في الواقع إلى درجات كبيرة من التراجيديا، فمد السكك الحديدية ارتبط بالألم، وقد تكلف تشييد خط قطار شرق إفريقيا آلاف الأرواح التي كانت تسقط نتيجة مشقة العمل وإصاباته ولا تجد علاجاً او رعاية، حيث عاملتهم الإدارة الاستعمارية لبلجيكا باستهانة شديدة، وهي الدولة التي كانت تسيطر على مستعمرات في شرق إفريقيا وقت مد خطوط السكك الحديدية، وقد أسرعت من العمل لتمتص خيرات المناجم الإفريقية قبل أن تصل إليها فرنسا، التي أيضاً أدارت عملية مد جزء من هذه الخطوط الحديدية بقسوة شديدة في المناطق الإفريقية التي تسيطر عليها، وهو أمر تكرر أيضاً في أمريكا اللاتينية تحت الحكم الإسباني.

لكن أكثر أشكال الدراما مأساوية تلك الحالة التي شاعت في الصين وقت حكم ماو تسيتونج، عندما كان يلجأ الفقراء إلى الانتحار تحت عجلات القطار ليضمنوا تشييع جثامينهم في جنازات بأكفان جيدة، بعدما ألزم القانون شركة القطارات الصينية بالتكفل بهذه التكاليف حالة وفاة شخص تحت عجلات القطار!

وحمل التاريخ حالة غريبة بخصوص مد السكك الحديدية في سيبيريا بروسيا خلال القرن التاسع عشر، وهي خطوط شاسعة بمعنى الكلمة تمتد على مساحات من الثلوج التي تعصف بها قسوة الشتاء، وكانت روسيا القيصرية تحتاج لهذه الخطوط لنقل البترول وتسريع لحاقها بالعالم الصناعي الأوروبي، ولأنها لم تمتلك الموارد المالية الكافية استدانت من الولايات المتحدة، التي تكفلت بالتغطية المالية لهذا الاستثمار الضخم مقابل تنازل روسيا عن منطقة ألاسكا التي كانت واقعة تحت الحكم الروسي! وبذلك غيرت خطوط السكك الحديدةي الروسية من الجغرافيا السياسية ووضعت أميركا وروسيا على حدود شاطئية يفصل بينهما مسافة بحرية قصيرة، بينما حمت كندا من غزو روسي محتمل في مراحل الحرب الباردة!

محطة النبلاء. أبدع المعماريون في تزيين محطات القطار، خاصة في فرنسا، التي تكاد أسقف بعض المحطات الريفية فيها أن تنافس أسقف الكاتدرائيات بما فيها من إبداع في مجال الرسم والتلوين، لقد اعتبر المعماريون والمصممون أسقف هذه المحطات عنواناً للحداثة والصلابة والنهضة الكبيرة للعالم الحديث، وقدموا أشكالاً من التصاميم الباروكية التي تعبر عن أن محطات القطار هي ما يعادل قصور النبلاء في العصور الوسطى.


  أحد أسرع القطارات الأوروبية



وتعد الرحلة بالقطار الذي يعرف بقطار النوم من أمتع الوسائل السياحية، خاصة تلك الرحلات التي تقطع قارة أمريكا من المحيط إلى المحيط، ليمضي القطار مخترقا الغابات وسهول البراري والجبال، وهناك أكثر من خط بعرض قارة أمريكا الشمالية في الولايات المتحدة وفي كندا، وتوجد مسافات محددة في خط كندا تخترق جبال روكي وصولاً إلى المحيط الهادي تعد فريدة في جمالها، حيث تتجول عين السائح بين مشاهد من أروع ما يمكن أن يشاهده إنسان، بين الوديان والجبال والغابات، ويوفر هذا القطار، الذي يتكون من طابقين، رفاهية فائقة لركابه، ويوجد به عربات زجاجية خاصة في الطابق العلوي لمشاهدة إبداعات الطبيعة الرائعة.

ويبقى أن تعبير "رحلة سعيدة" الذي نستخدمه الآن في وداع المسافرين بالطائرة أو بالبحر ينتسب ألى أدبيات السفر بالقطار.

Wednesday, May 30, 2018

الكرة السوداء *




وقتها كان رمضان يأتي في الصيف أيضاً. وكان عالم الكرة مليئاً بالأساطير الجديدة. لاعبون يمكنهم عمل المعجزات بمهارات فردية؛ كنا نعشق الخطيب ونعلّق صوره على الحوائط. لكن فوز الأرجنتين بكأس العالم لأول مرة في البطولة الأخيرة كان ميلاداً جديداً لعالم كامل من الأحلام لدى المراهقين في العالم الثالث وليس مصر وحدها. وكانت دورات الكرة الشراب في أمسيات رمضان أشبه بوسادة عملاقة نمارس معها أحلامنا السرية بانفعال في هذا الجزء من القاهرة.
في البداية ظننتها مباراة واحدة ثأرية بين شباب هذا الحي الذي لم أكن أقصده إلا زائراً. نقيم في الظاهر وأقاربنا في هذا الجزء من باب الشعرية: الإمبابي. لم أكن أعرف أن هذا المربع السكني الذي يسمّى شارع 
الإمبابي يمكن أن يحتضن دورة من 5 مباريات كل ليلة طوال ليالي رمضان.
مدخل الشارع نفسه عجيب. حارة ضيقة تمتد 20 متراً كشريان ضيق، عرضه أمتار قليلة لو مرت سيارة نلصق ظهورنا بالحائط لتفوت. لكن الشريان يتسع بعد ضيق ليفضي إلى مستطيل واسع أكبر من ملعب كرة اليد طولاً وعرضاً، وينتهي مع جدار مستشفى "سيد جلال". إذا انحرفت يميناً مع الجدار ومشيت ستصل إلى شارع الظاهر، وإذا رحت يساراً ستخرج إلى شارع بورسعيد.
لم يكن تصوّر هذه المساحة كملعب ممكناً، كانت مغطاة بالمجاري طوال العام تقريباً. لكن الفضل يرجع لشخص عرفت أن اسمه الحريري، يتوسط لدى الحزب لتجفّ المجاري قبل رمضان بأيام، فيبدأ تخطيط الملعب بالجير وبناء المرميين. كانت فرق كثيرة تشارك، بعضها من أماكن بعيدة كالأميرية، لكن الأغلبية من باب الشعرية والظاهر والمنسي والقبيصي وغمرة.
بعض لاعبي الفرق الصغيرة في الدوري العام كانوا يشاركون في المباريات، كنا نعرفهم من ملابسهم الرياضية الكاملة والنظيفة، وكانوا حتماً لا يدخنون، لكن لم يفز بدورة الإمبابي فريق يضم لاعبين من هؤلاء. لا يمكنك الفوز هنا دون أن تتسخ ملابسك كما يقولون.
كان ذلك صيف عام 80 أو 81؛ بعد وقت من عام 1978 الذي قلب فيه الخطيب تأخر الأهلي أمام الزمالك بهدفين في نهائي الكأس إلى فوز بأربعة أهداف في آخر ربع ساعة من المباراة. في ذاك العام شاهدنا في التلفزيون لأول مرة مباريات كأس العالم كاملة ومباشرة أثناء ما كانت تُلعب. وقد دغدغ خيالنا صعود الأرجنتين إلى نادي الكبار.
لحظات التحول في مباريات تلك الأيام خفقتْ لها القلوب، وكانت أجيال الشباب والمراهقين وقتها مشبعة بما تعرفه عن حرب 1973، فجاء سيرك 1978 الكروي العجيب ليصبح مصدر إلهام يعزّز فكرة قلب الطاولة، وتصحيح مسارات القوة، والصعود بعد الخسارة.

الحريري 
أحد الشخصيات الهامة في الحي، نحيف وطويل، أصلع بالكامل وقت إطالة الشَّعْر في السبعينات؛ وكان ذلك علامة على قوة شخصيته بالمناسبة. لم أعرف أكان حبه للكرة نابعاً من أنه لعبها يوماً ما؟ فقط كنت أشاهد قدرته على تحكيم مباريات صعبة، واتخاذه لقرارات دقيقة لا يعترض عليها أحد من هذا الجمهور الصعب. وكان أي حكَم آخر للمباريات يكتسب قوته من أن الحريري ترك له مكانه.
في هذا الصيف تمكّن الحريري من تنظيم لقاء بين الفائز بدورة الإمبابي الرمضانية وبين بطل مدرسة "دي لاسال فرير" التي تقع في شارع الظاهر. كنت أتردد على المدرسة صيفاً مع صديقي وجاري الذي يدرس فيها، وكان توقيع والدته على أوراق عضويتي بالنادي الصيفي للمدرسة كصديق لابنها بوابة العبور الموسمية إلى دائرة الذين يتعلمون الفرنسية.
تجري مسابقة الفرير بين خريجي المدرسة، معظمهم طلبة في الجامعة، مع فريقين من قدامى الخريجين، وفريقين من ثانوي. وكان ملعب المدرسة ذا مقاييس قانونية تقريباً، وحجم المرمى كبيراً كما نراه في مباريات التلفزيون.
مرمى الإمبابي يكاد يطابق مرمى كرة اليد. الكرة نفسها في ملعب الفرير كانت كرة السبعينات، أكبر من تلك التي يلعبون بها الآن، وأثقل وزناً، لكن الكرة الشراب أصغر ولها سحر خاص، ثقيلة وسوداء، مرنة لكنها لا تقفز مثل الكرة البيضاء.
إذا كنتَ قد شاهدتَ الكرة الشراب ستعرف كيف سارت هذه المباراة. عالمان متوازيان قرّرا اللقاء في أمسية صيف غير حارة. انتهت 7/1 لصالح من يلعبون بكرتهم على ملعبهم. الوحيد الذي نفذّ حركة فيها حرفنة من جهة الإمبابي كان حارس المرمى الأسمر الذي يُسمّى تحبباً (رُزة)، لأنه من أحرز هدف فريقه الوحيد من هجمة منظمة تقدم فيها إلى الأمام كمفاجأة.
كان بطل الإمبابي لثلاث مرات متتالية يصنع الأعاجيب في الشارع، بالكرة السوداء، وكان حارسه (رُزّة) مشهوراً بالطيران والارتماء على الأسفلت دون خوف والتقاط الكرات الأرضية السريعة بصدره؛ إنه يقفز كبهلوان لمسافة لا يزيد عرضها عن متر، لكنه لا يستطيع الارتماء أو الطيران لصد كرة في زاوية عليا لمرمى حقيقي.
حرفنة كرة الشارع ترتبط بالمساحات الضيقة، المهارة التي تفتح مساحات لا تكامل الأدوار، المفاجأة لا اللياقة والقوة. لم أعرف السبب الذي جعل الحريري يظن أن فريقه يمكن أن يُظهِر مستواه على ملعب كبير دون تدريب، يبدو أنها الفرصة الوحيدة أتت، فقد حضر بعض كشافي الأندية هذه المباراة التي خلت من الإثارة.
لا أذكر أن أحداً سعى لتكرار المحاولة للجمع بين الإمبابي والفرير، على الرغم من أن كثيراً من لاعبي الإمبابي في بداية الثمانينات تقدموا لاختبارات نادي "المقاولون" الذي فتح فرصاً جديدة. في آخر زيارة لي -العام الماضي- سألتُ عن دورات الإمبابي، وعلمتُ أنها استمرت لـ 2003.
كانت المجاري تغطي الشارع من جديد بعد كل عيد بأيام حتى آخر مرة زُرتُه في التسعينات. اختفت المجاري الآن، وأصبحت ساحة اللعب موقفاً للسيارات، ولم يلعب أحد بالكرة السوداء.


نُشرت في جريدة الأخبار، سبتمبر 2016 

Sunday, May 27, 2018

صلاح رجل طيب




هو شاب يشبه ملايين من الذين يخشون الحلم، لأنهم يعرفون أن الأحلام لا تسبب لأصحابها إلا الوجع. هو لا يشبه من فرضهم نظام  الحُكم على الإعلام، تلك الأشكال المحدبة والمقعرة والمشوّهة الأبعاد والتي قرر أصحاب السطة في مصر أن تحتل جميع الشاشات لتبث الإحباط وتوئد أي محاولة للحلم.


 كما أنه لا يشبه هؤلاء الذين ربما حاولوا طرح شخصياتهم تحت أضواء المجال العام باعتبارهم طيبين، فتم تشويههم، أو غرس المرارة في نفوسهم بأيدي من يسيطرون على سلطة كل المجالات في مصر، أو استهلاكهم وتشتيتهم بمعارك يختلقها رجال ضبط المجال العام.

محمد صلاح وصل إلى مكانة عالمية في الكرة، لكنه إنجاز لا يتطلّب الذهاب إلى الجامعة، فكل شاب في مصر يعلم أنه لا توجد جامعة في بلده تقدم علماً يسمح له بالوصول إلى مكانة محترمة في تخصصه بمقاييس العصر الحديث.

هو أيضاً شاب، والإنجاز العلمي يتطلب سنوات، عكس الإنجاز الرياضي. لكن المثير ذلك التعاطف الكبير من شابات ومن سيدات في سن والدته أو اقل قليلاً، سيدات عبّرن عن غضبهن على صفحة اللاعب الإسباني، وكانت جملة "صلاح رجل طيب" قاسماً مشتركاً بينهن في عتابهن الغاضب من شخص تعمّد الشر.

صلاح إز أ جود مان، والبعض كتب بالعربية: "صلاح رجل طيب ومحترم".

صلاح إنجاز وجدنا أننا نمتلكه، ورقة يا نصيب في سيادة الفراغ الكامل من أي رمز، بعد أن حاول قطاع من الشعب المصري أن يصدّق نوعاً من البطولة في صعود رئيس الدولة الحالي إلى السلطة. فراغ بدأ تفريغاً منظّماً عن طريق سياسة إعلامية مختصرها التقزيم والتشويه ليظل شخص واحد في مركز  الصورة، فإذا بالأمر ينقلب  بعد هزيمةالاستثمار في قناة السويس الجديدة وتقلص القدرة الشرائية للعملة إلى فراغ كامل.

صلاح رجل طيب لأنه بارقة أمل مفاجئة ومن خارج السياق تماماً لأشخاص لم يتابعوا كرة القدم، بل لم يفكروا في مجئ هذا اليوم الذي يجلسون فيه في انتظار مباراة، فما بالك إذا كانت بين أطراف لا يعرفونها، يتنافسون في لعبة لا يعرفون أسرار جمالها أو القوانين التي تضبطها!

صلاح رجل طيب لأنه يبكي عندما يتألم، ويطلق شرارة الفرحة والوعد بالانتصار عندما ينجح. هو شخص درامي لأنه أتى من مكان غامض، مجرّة أخرى في دلتا مصر لا نعرف عنها شيئاً، فلا نستطيع تنميطه، خفيف الظل لمن يتابعه على تويتر، لكنه يسجد مثل كثير من اللاعبين الملتزمين أخلاقياً الذين يعبّرون بإشارات دينية مثل السجود أو التثليث عن فرحتهم.

هو قروي بسيط، أفلت من شباك اصطياد الحلم، وسقط مع نجاحه الاستثنائي ذلك الحاجز الذي يضع مرارة في نفوس أبناء نفس الوطن من المسيحيين، هم يعلمون أنهم مستبعدون من مشهد تمثيل الدولة وشغل أي مكانة رمزية فيها، بما فيها أن يخرج من بينهم لاعب كرة، وقد زادت موضة السجود بعد إحراز أهداف في مباريات الكرة حاجز الاستبعاد، لكن صلاح استثناء من ذلك في ظني، ربما لأنه قروي عفوي ومتواضع، أكثر من أنه صاحب إنجاز.

صلاح هو حذاؤنا الذهبي الذي يحسدنا عليه جيراننا الأغنياء في السعودية، على الرغم من أن عندهم "كل شيء" حتى الكعبة نفسها، لكنها حكاية قديمة وتقليدية يعيد إنتاجها مجتمع لم يغادر الماضي؛ حكاية الرجل الذي كان لديه 99 نعجة، وشقيقه الذي كان له نعجة واحدة، فطلب الغني استغناء الفقير عنها!

السقطة الدرامية في قصتننا مع صلاح وكأس العالم، تلك الساحة التي سيلعب فيها بالقميص المصري، جاءت من خارج الشخصية، فهو لم يقع في غرام امرأة أو لذة تشتته، هو رجل طيب بالفعل، يذاكر مهامته ويستعد لها، ويؤدي واجبه.

 نحن أيضاً أشخاص دراميون أكثر من كون بعض سوء الحظ يطاردنا، عندما يأتينا بطل يكون عليه أن يلعب كل المواجهات ويمتد موسمه مع فريقه إلى آخر بطولة دوري، ويكون الجار الغيور قد أثار خوفنا من تمنيه المكروه لبطلنا، وتكون آخر مواجهة مع بلطجي محترف (راموس)، ولأننا تعرف تاريخ جيراننا مع رشوة الحكام لا يبخل علينا القدر بما يؤكد شكوك التواطؤ!

لكن بطلنا رجل طيب بالفعل، دموعه تجذب مشاعر المحايدين، دموعه تذكرنا بأن في وادينا أشخاص ليسوا موهوبين فقط، وإنما طيبون أيضاً، وأن الحظ يمكن أن يفتح لبعضهم باب الخروج من شبكة اصطياد الأحلام.


Tuesday, December 8, 2015

في وداع إدوار الخراط: الأب المراوغ

المقال منشور ضمن عدد خاص لجريدة القاهرة عن الأديب الكبير

في منتصف التسعينات كنت أجري لقاءاً مع مسئول عن مكتبة كاتدرائية العباسية ضمن تحقيق صحفي عن المكتبات القبطية لصحيفة أخبار الأدب، وتطوّر حديثي معه إلى لحظة شخصية ودودة أراد الرجل فيها أن يمد لي خيط التواصل عن طريق الدراسة في معهد الدراسات القبطية، فسألني عن التخصص الذي أود اختياره لو رغبت في استكمال درجة من الدراسات العليا في هذا المعهد، وكانت إجابتي: الأدب، فتغير لونه قليلاً.

 بعد إلحاح منّي أوضح بنبرة رجل دين متحفظ عن السبب، وهو أن المسؤول عن الدراسات الأدبية شخص يكتب كتابات فاضحة، فيتطرق إلى الجنس أحياناً. مع تزايد قلقي الشخصي من سبب كهذا، وفضولي لمعرفة من هذا الشخص أفصح لي عن اسمه: إدوار الخراط.

كنت أسير في ساحة الكاتدرائية في ذلك الصباح باتجاه الباب تحت تأثير الصدمة من كلمات رجل الدين، فقد كانت كتابات الخراط لي متسترة بجماليات اللغة، وكلمة "فاضحة" أبعد ما تكون عنها، كما أني لم أعتد وجود الخراط في هذه الخانة؛ لم أتخيله موضع انتقاد من رجال الدين.

في لحظة الدهشة تلك استوقفتني فتاة في السابعة عشر من عمرها بنقرات على ظهري، فالتفتُّ إليها وعلى الفور باحت لي بحبها وهي تنظر إلى الأرض! وعندما رفَعَتْ رأسها حاولتُ أن أهدئ من روعها خوفاً من أن تصيح عندما تكتشف أنها أخطأتْ الشخص الذي كان يجب أن تكشف له عمّا في قلبها، فيتسبب صياحها في مزيد من الالتباس لم أكن بحاجة إليه في تلك اللحظة!

هكذا، بين المحبة والالتباس كانت علاقتي بإدوار الخراط.

في سن الـ 25 التقيت الخراط، وكان هو في طريقه نحوالـ 70. كان اللقاء على أرضية جيلية؛ كمجموعة كتاب شبان أصدروا كتاباً مشتركاً يحمل تجربتهم الخاصة. تم اللقاء في بيته بترتيب من ناشر الكتاب (حسني سليمان/ دار شرقيات). لم نذهب جميعاً، وكان التوقيت - بعد نشر الكتاب - موضع راحة من الذاهبين للقاء "الأستاذ". القلق من كيف ستكون العلاقة كان شاغلي بشكل شخصي، ولكل قلقه وأسبابه.

كنت في فترة سابقة قد وجدت حاجزاً بيني وبين الاتكاء على كثافة اللغة ومحسّناتها في بعض أعماله؛ مقاطع كاملة كانت هدراً لجماليات أخرى، لكن الأهم – في نظري كشاب – أن تمجيد اللغة فخٌ يُسْلِم إلى نوع من السلطوية، أو البطريركية. حيادية اللغة – وليس كثافتها - وتحريرها من تلك الحرارة الرومانسية، وحمولة الدلالات هي بداية الحرية.

أفكار كهذه، وأخرى عن "ذات" الكاتب قيلت في اللقاء الأول،
لكن على عكس ما يخطر على البال، جرى الحديث في سياق هو فيه محرّكُه باتجاه فهم متحمس للأجواء التي كُتبت فيها نصوص الكتاب المنشور.

   والمثير أنه نحت تعبيرات نقدية – عفو الخاطر- للتعبير عن حيادية السرد مثل "الكتابة في درجة حرارة الغرفة"، وكتابة الفيديو كليب"، وغيرها مما أثار إعجابي، ودفعني، مع تلك الحادثة التي جرت في كاتدرائية العباسية، إلى قراءة أعماله ورؤاه النظرية من جديد.

حماس الخراط للتجديد كما لمسته في تعامله مع بعض أعمال كتاب التسعينات كان نابعاً من أشياء أساسية: ليبراالية عميقة في شخصه وفكره، وغرام حد الولع بالتجديد والإيمان به 
كحتمية، والاعتقاد أن المغامرة الإبداعية هي اليقين الذي يميّز الفنان.



في لقاء تالٍ معه تمشينا حول بيته في الزمالك، وأخبرته عن اهتمامي بكتابة مقال أو دراسة أقارن فيها بين علاقته بالإسكندرية وعلاقة يوسف شاهين بها. راقت له الفكرة خاصة مسألة "ذات الفنان"، ولم أنفذ وعدي، لكن لم أتخل عنه حتى الآن.

في مقال له نشر ربما عام 2005 أو بعد ذلك في جريدة الحياة، دافع الخراط عن حماسه المتواصل واستمراره في الكتابة عن الأدباء الشبان، حتى من كتب قصة أو اثنتين منهم ثم توقف، كانت نظرته أن تلك في حد ذاتها إرهاصات لثورة قائمة أو قادمة، في الأدب أو المجتمع، بحسب تعبيره "كل منهم يلقي حجره" وقد يمضي.

أحد المشاكل التي أجدها في كتابة هذا الوداع للخراط أنني لا أتخيل أننا نكتب عنه؛ فدائماً ما يكتب إدوار الخراط عن الآخرين. رؤاه النظرية وتحليلاته مدخل أساسي لفهم تطوّر الظاهرة الأدبية في مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو بارع في نحت المصطلحات والتعابير، ليس لديه تردد الأكاديمي،

بل على العكس، يجني الجانب الإيجابي من الشك عن طريق نقيضه: المغامرة.

الذين التقوا الخراط محظوظون.

 قلة – في كل عصر - من المشتغلين بالأدب يمتلكون المواصفات الموسوعية للعمالقة، وقد فقد الأدب المصري والعربي قامة كبيرة من هؤلاء برحيل الخراط، فربما يكون الأخير الذي كان قادراً على العبور بين الأزمنة واللغات والتجارب بهذه السلاسة، ممسكاً بأدوات أدبية وفكرية كاملة العدة، ومؤمناً بالإبداع كخلاص.